ظِلال

اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، اللهم آنس وحشتهم وارحم غربتهم وتجاوز عن سيئاتهم واقبل حسناتهم، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه. اللهم جدّيّ وجدتي، وعمّيّ وجميع الذين رددت أمانتهم من أحبابي، اللهم اغفر لهم واجمعني بهم في جنات النعيم.

صباح الخير؛ أيامي مباركة بفضل الله هذه الفترة ثم بفضل قراءة سورة البقرة، ألمس رضا نفسي وهدوؤها واطمئنانها، وألحظ خفّة لساني بقراءتها يومًا بعد يوم، والظِّلال الدافئة حيث تأوي نفسي المضطربة وتستكين، أبواب صغيرة تفتح، ومزاليج كانت عسرة متصلبة، الحياة أسهل، حتى لو لم يُرَ ذلك من بعيد، ألحظ الفرق لأني أترقّبه، وحقًا أجده. الحمد لله

خرجت اليوم في الساعة السابعة لشراء الروتي “خبز شعبي”، مضى وقت طويل لم أتنزّه فيه مشيًا في تلك الساعة، مشيت ببطء، اشتريت شايًّا ملبّن من مقهى الشجرة طلبته “نص” يعني بتقليل الحليب وزيادة البهارات، وزلابية حارة رائحتها الشهية جعلتها الإستثناء الوحيد من المقليات التي أمنعها هذه الفترة إلا بحساب دقيق. وفي الأزقة الباردة المفعمة بالحياة، لم ترتفع الشمسُ بعد، والظِّلال العذبة للصباح ترقد في الطرق المنزوية النديّة، مشت إزائي حمامة دون أن تخاف، ريش عنقها أخضر فيروزي، وفي أجنحتها ريش بنفسجي بصلي، لديها سيقان ظريفة، وبين أعمدة الإنارة حلقت بعجلة طيورًا مغرّدة، أجنحتها قصيرة وتخفق بسرعة مدهشة، تبحث عن طعام، تخرج خماصًا وستعود بطانًا كما ورد في الحديث الشريف. في كتاب الروح الذي قرأت اليوم أول فصل منه، في أثر قال أهل القبور لمطرف الذي كان يزورهم، أنهم يعلمون يوم الجمعة، ويعرفون ما تقول فيه الطير إذ تقول: سلام سلام!

منذ وقت بعيد سحرتني حكاية النبي سليمان عليه السلام مع الحيوانات، إذ علمه الله لغتها وفهّمه ما تقول، وحاولت مرارًا وتكرارًا أن أفهم ما الذي تقوله العصافير والحمام وحتى الدجاج هذه التي تبقبق، أظلّ في حيرة أفكر ما الذي تقوله ولا أستطيع إدراكه؟ يا له من شيء عظيم! حتى أني دعوت بدعوة سليمان! ثم أدركت بعد حين أن لا أحد سينالها بعده، فتوقّفت عنها لكني ظللت على رغبتي بفهم أصواتها تلك، أصوات لها معاني، لم يعد باستطاعتي سماع حيوان دون التفكير بأنه يقول شيئًا لا أعرفه، باتت كل الأصوات تعني أشياء، حياة، عالم لا أستطيع ولوجه، وتساءلت دائمًا أيضًا: تُرى هل تفهم الحيوانات لغتنا؟ بينما لا نفهم لغتها؟

صدّاح؛ ديك أخي الكبير، يصيح من بيت أخي فيردّ عليه ذهبيّ من بيتنا بصياح مثله، وكأنهم يؤدّون ردّية أو مساجلة، لا أستطيع حيالها إلا القول: يالله من فضلك.

استفتحت الكتابة بذكر الموتى، ذلك لأن الفصل الأول آسر من كتاب الروح، إلى درجة أني استخسرت أن أواصل القراءة دون التوقف هنا والتأمل لبعض الوقت، وتذكرت ما قصّته ابنة عمتي عندما زرنا بيت العائلة _الخالي من عموديها جدي وجدتي رحمهما ربي_، وقبل أن أنقلها دعوني أخبركم أن عمي الأصغر، آخر العنقود، هو شخص مميز إذ أنه كما تصفه أمي التي تعرفه منذ صغره: طفل كبير! فعلًا، عمي وليد يفضّل الكارتون القديم على الأفلام والمسلسلات المخصصة للكبار، مرة اتّصل بسالي ابنة عمتي في الساعة الثانية عشرة ليلًا وقال لها بحماس: افتحي قناة “…” حاليًا يعرضوا سندباد!

وهو إلى جانب طفوليته، شخص تقليدي، يعيش عمره الخاص بعيدًا عن تأثير العالم المستعجل هذا، لديه طفل في التاسعة تقريبًا من عمره لكنه وإياه مثل الأصدقاء، رغم أنه يدلّله بشدة لكنه بنفس الوقت يحادثه كرجل وليس كطفل يفصل بينه وبين والده أكثر من ثلاثين عام! لا يزال عمي يحتفظ بهاتفه الحجري، ويتمسّك بموضة الحزام بمحفظة الهاتف الجانبية، موضة لم يعد لها وجود لأن الهواتف لم تعد تَسَع لتلك الجيوب الصغيرة! لكنه لا يزال مع خالي الكبير الوحيدين ضمن فئة قليلة من الرجال التقليديين متمسكون بها بشكل يدعو للإعجاب. يخرج عمي مع كل صلاة ويشتري الوجبات بنفس الطريقة القديمة، كل وجبة بوقتها، يشتري خبز العشاء لوحده، خبز الصباح لوحده، خبز الظهيرة لوحده، هذه طريقة قديمة، أصبح الناس الآن “وبيتنا ضمنهم!” نشتري كمية اليوم كاملًا ثم نضعه إذا كان الجو باردًا في الخارج أو إذا كان حارًا نضعه في الثلاجة ونسخن حسب الحاجة، لقد ذكرني بالكارتون حيث يأتي لبن الصباح دوريًا كل يوم وليس بالعلب الجاهزة والمحفوظة مثلما نشتري في هذا الوقت. كما يرتدي عمي ملابس التسعينات، ويتهندم بدون مبالغة لكن بدقة شديدة، عمي هذا آخر العنقود، ويعتبر نكتة العائلة، إلى حد أن البعض يعتبره استفزازي، لكنه في الواقع شخص مثير للاهتمام بغرابته وتمسّكه الشديد بالعتيق من الأشياء وبآراءه الشخصية بعيدًا عن التأثيرات العامة في المجتمع، تقول ابنة عمتي أنه لا يزال يشتري بانتظام الهواتف الحجرية ذات الشاشات الصفراء، رغم أنه بكل بساطة يشتري لابنه الصغير ذو التسع سنين هاتف ذكي، إنه النوع الذي يقول بكل ثقة: واست أب!

هذه الخلفية عن شخصية عمي ستساعدكم على تصوّره في القصة التالية، تقول ابنة عمتي أنها ذهبت وإياه لزيارة جدتي، رحمها الله، وهناك بعد أن سلّمت عليها ودعت لها تقدم عمي فقال بكل بساطة: امّه! اخواني ضبّحوا بي يمّه!

تقول سالي انفجرت ضحكًا وبكاءً بنفس الوقت، قالت له: الله يهديك يا عمو! اش دا اللي تقوله!

فطلب منها أن تدعه يكلم امه/ جدتي؛ براحته! قالت سالي فظل يشكو لجدتي كما لو أنها ستخرج لترد حقه أو تربّت على كتفه، وأنا ما بين بكاء وضحك، وقلت لنفسي أني لن أزور جدتي معه من جديد لأني لم أستطع التماسك ولو كان أحد آخر في المقبرة لحسبني إما مجنونة أو وقحة. عمي لا يُصدَّق!

لكني حين تذكرت هذا الموقف، تذكرت مقابله ابن عمي، إنه في مثل سني، مات عمي بمرض ونحن في العاشرة من عمرنا تقريبًا، كان نبيل متعلّقًا بأبيه/ عمي بشدة، وسبّب له موته صدمة حتى على الرغم من احتمالية الأمر الكبيرة نظرًا إلى أنه مرض معروف، وأثّر الموقف بشدة على نفسيته، كان يبقى بجوار قبر أبيه كثيرًا، وتمرّد على أمه والعائلة حتى كاد يخرج عن طوره، آلمني كثيرًا قصة تداولتها العائلة عن أنه في العيد، حيث مات عمي في رمضان، قال لأمه: باروح أعايد على أبي. وذهب إلى قبره! نبيل الآن بخير، لكن لن يسدّ أحد ثقوب الفقد لأرواح نحبّها، وحده الدعاء يرتقها على مهل.

ويسلّيني أن أعرف أنهم يسمعوننا، ويعرفون بزيارتنا، بل وينتظروننا، وينتفعون بأعمالنا الصالحة وصدقاتنا عنهم. يومًا ما سنكون بينهم، ننتظر أحد يزورنا، ونسمع ولا نستطيع ردًا، سيغلق بيننا مزلاج الحياة، أشخاص حياتهم بأجسادهم، وأشخاص حياتهم بأرواحهم.

عندي صديقة، زميلة، صاحبة لأختي، تضع على حالتها كل جمعة: اللهم اغفر لرقية واعفُ عنها. أتساءل من هي رقية، وأفكر: يبدو أن لرقية أثر طيّب أو حتى عمل خفي بينها وبين الله كي تستمر هذه الصلة معها في الدعاء. ألا يسلّينا!

وأدعو للموتى، أشخاص أحيانًا لا أعرفهم، أسمع عنهم فقط، يقع فقدهم في قلبي باردًا متقلّص، مثل حزن معلّب، أتصوّر ألا يتذكرهم أحد، وأفزع، فأجدّ بالدعاء، وأخصّص بالإسم، اشخاص لا يعرفونني، لا يعرفون أني موجودة، ولم يسبق أن التقيتهم، أو تبادلت معهم كلمة، أو حتى عرفت بوجودهم، أشخاص من أقاصي من شعاب، من صحاري، من أماكن راقية وأخرى حقيرة، أعرفهم لسبب، ربما كي أدعو لهم فقط. أفكر أحيانًا: يا ترى؟ هل دعائي مسخّر لهم أم أن لهم من الخفايا الطيبة ما جعلني أذكرهم في دعائي؟ ثم أقف على فكرة: يبدو أني أدعو لهم كي أجد من يدعو لي حين أُفقَد! لا شك من هذا، كلٌّ منا مسخّر للآخر، لو انتبهنا لهذا فقط لكنا بخير، يدعو بعضنا لبعض لأنه يعرف أنه سيجدها تعود إليه، الدعاء بريد عظيم لم يوجد مثله قط، إنه بلا رصيد، بلا ضريبة، وبدون طوابع من وإلى، إنه رسالة عظيمة يوصلها ربنا العليم الحفيظ، الحكيم الذي ألهمنا إرسالها أصلًا.

أفكر بجدّيّ، الذين لم ألتقي بهم قط، لا يعرفون حتى أني ولدت لولديهم، وأرجو أن أكون الولد الصالح الذي يدعو لهم وتتدفّق عبره موازين حسناتهم.. أن يعرفونني عبر الدعاء، الله! ما أعظمها من طريقة! يصلهم مني: ابنة حسين ونور ذكرتكم. يا رب! آنسهم، يا رب لا تجعلني خزيًا عليهم، واجعلني ذخرًا وفخرًا وقرّة عين. واجعل لي ولدًا صالحًا يدعو لي كما دعوت لهم، واجعل لي قرة عين.

يا رب، أرواحهم في ملكك، لا يبلغها إلا ما تشاء، أبلغهم عني سلامًا، أسألك لهم رحمة ورضا، وأنسًا وعفو، يا رب؛ أسكنهم في فردوسك الأعلى، وافسح لهم من نعيمك المقيم، واغفر لهم إنك أنت الغفور الرحيم.

عوالم، دنيا، ما أصغرنا كأفراد! وما أكبرنا كأُمّة تذكر بعضها بعضًا وتتّصل بالبريد الإلهي!

(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم)

فكرتان اثنتان على ”ظِلال

  1. اسماء يا اسماء!
    مدونتك لم تمر علي في السابق بالرغم من اني قارئة للمدونات و استمتع بإكتشاف جديدها!
    سررت جداً بأني وصلت إليها!

    استمتعت و قهقهت و دمعت عيناي و انا اقرأ تدوينتك هذه!
    خليط من المشاعر عبر الى روحي من خلال كلماتك!

    اضحكني جداً وصفك الدقيق لعمك وليد، و أكاد اراه بكل تفاصيله الغريبة و طيبة قلبه الجلية من كلامك عنه.

    رحم الله موتانا و موتى المسلمين و الناس أجمعين، و رزقنا الله بأشخاص مثلك يدعون لنا في ظهر الغيب!

    كتابتك و حديثك المسترسل العفوي جعلني اشعر انني في جلسة لطيفة مع صديقة قديمة نحتسي شاي عدني و نثرثر بلا قيود!

    سأكون في الجوار انتظر “سوالفك” الشيقة!

    مع خالص تحياتي
    بثينة
    https://www.bethjosef.com/

    Liked by 1 person

  2. عزيزتي بثينة؛ أسعدتني كلماتك حقًا وأودّ أن أقول لك أنني سعدت جدًا بلقاء مدونتك، أنا شغوفة بالأمهات المصارعات للإبقاء على مساحاتهم الحرة رغم فوضى ومهام الحياة اليومية.. زرتك وتصفحت تدوينات من عندك حتى نسيت أن أرد على تعليقك الجميل هذا، ظنًّا مني أن شعوري قد سافر من قلبي إلى قلبك!

    رحم الله الذين غادروا، وحفظ لنا المتواجدين، وأقرّ عيوننا بأحبابنا وصغيريك الذين أحببتهما من حديثك😁💘

    تشرّفت بمعرفتك، وأهلًا بك؛ وأتمنى أن يظلّل علاقتنا طيب أثر لقاءنا الأول💓

    إعجاب

أضف تعليق