فلسفة الكأس الزجاجي 🍹

اشتريت في العام الماضي، أي قبل شهرين تقريبًا من دخول 2024م، عدة كؤوس وهي برفقة الأكواب بمثابة هوس لي، لكني الآن في عام البساطة والتبسيط ولن أشتري كوب أو كأس جديد حتى تتكسر جميع أكوابي والعياذ بالله! أو يبدأ عام جديد. على أية حال، انكسرت قاعدة أحد هذه الكؤوس أثناء نقله إلى البيت ولم يعد يستطع الكأس الوقوف، فرشاقة ساقه لم تستطع التوازن وحدها بالقاعدة المكسورة، ولأنني حزنت لأجله فقد حاولت أن أطبق عليه الـ “كينتسوغي” الياباني في لصق المكسور وتزيينه، لكن مرة أخرى ولأنه بلا تاريخ يذكر معي؛ انكسر. وهذه المرة ركنته وجمعت قطعه المكسورة لعلي أجد له حلًا، صحيح أنه كان رخيصًا لكن خذوا بالإعتبار أني لا أستسلم بسهولة أولًا، وثانيًا أن حاوي الشراب نفسه لم يصب بأذى وبالتالي فكرت أنه يمكنني الاستفادة منه بطريقة ما. حتى جاء اليوم، والمهمة هي تنظيف مكتبي وفي نفس الوقت دولابي…

(استطراد) على فكرة أنا شخص بسيط، حياتي مبسطة أيضًا، لست متابعة للموضة أو نهمة للغذاء الصناعي والوجبات السريعة، وهكذا فإن دولابي هو نفسه مكتبي إذ لا يتعدى المتر طولًا ونصف المتر عرضًا، عندي أدراج أخرى لكن المشكلة تتجلى هنا، فأغراضي كلها على بعضها لا تشبه التوازن في شيء!

على قمة الهرم الذكريات معظم محتويات أدراجي وهي أوراق بالطبع؛ رسائل ومذكرات وقصص مبتورة واختبارات وكل ما خط على ورق وله معنى خاص، ثم يتبعها الكتب التي غنمتها من مكتبة والدي حين شجعني أول الأمر على القراءة قائلًا: الكتاب الذي تنهيه لك. وكتبي التي اشتريتها والكتب المهداة، إذًا وما زلنا في المحتوى الغالب؛ الورق مهيمن، بعدها تأتي أغراض الحرف التي أجيدها: الكروشيه والتريكو وأساور الخرز والخيوط وكل ما يتبعها، وقريبًا ستضاف عدة التطريز ان شاء الله. بعدها نأتي للأكواب والكؤوس والعلب الغريبة واللطيفة. آخر شيء تأتي الملابس وملحقاتها! أما الاكسسورات وادوات الزينة فهي الأقل على الإطلاق. هكذا مهمتي في وزن أغراضي مهمة عصيبة حتى على التخطيط، لأني لا أستطيع حتى التفكير بالتخلص من الذكريات أو من الأكواب أو من الكتب حتى لو كان مجرد نقلها للدواليب العامة في المنزل، هذا التفكير يشعرني بالفزع، لذلك أراوغ نفسي (وقد يكون الحق) فأقول أني فقط سأرتّب الدنيا، وسأنظف سطح المكتب حتى أحصل على مساحة حرة أتنفس من خلالها دون الشعور بأن ورائي الكثير والكثير مما لم ينجز، وهذا ما فعلته، ورغم أنه لا يوجد فرق كبير إذ لا يزال على المكتب أدراج صغيرة للأغراض السريعة علبة الأقلام والأدوات وصندوق الكتب والدفاتر والمذكرات التي أستخدمها يوميًا والضوء الصغير.. آه! خذوا وسآخذ الآن نَفَسًا بفاصلة، حسنًا أشعر بقليل من الرضا وأجد في نفسي شجاعة أكبر على |ترتيب| الباقي في الدواليب والتخلص مما يلزم😢

أخرجت الكأس الرشيق الساقط وقلت لنفسي: فلتتوقفي عن الكذب حالًا، وارمي القطع المكسورة. ورميتها. ثم تشجعت أكثر وأخرجته على سطح المكتب كي أجد له حلًا اليوم ولا يوم آخر أو أرميه، وجاء أخي الكبير اليوم وسألته هل لديه طريقة لصقل الكأس ومن ثم معالجته، فأجابني بنعم، وهكذا ظللت ساعة تقريبًا أفرك قاعدة الكوب الحادة بقطعة صنفرة تحت الماء في صحفة، كي أضيف له قطعة أخرى كقاعدة وكتجربة وكآخر إنقاذ أستطيع تقديمه له. لكن ما بدأت لأجله هذه التدوينة وكدت أتراجع عن كتابته بعادتي السيئة التي أمارسها منذ فترة، كان هذا هو ما فكرت به أثناء صنفرته:

ثمة أشخاص يشبهون الزجاج، والتربية عملية تشبه كثيرًا الصنفرة!

لا أشك في أن كل منا يعرف شخصًا كلما انكسر كلما ازداد حدة، وكلما داس على حزنه أحد رد عليه بجرح لا يمزح، فلا يعيش هو بعدها عيشًا جميلًا ولا يمسه أحد إلا رد له ردًا حادًا بقصد أو بدونه. هذا ما يحدث للشخص الزجاجي إذا انكسر، أما إذا صنفرته التربية الصبورة الجيدة فإنه لن يؤذِ أحدًا بل سيخدم ويعين ويصفّي الجو ويعطي صورة جمالية لكل شيء يحيط به. إن صفة هذا الشخص الرئيسية لجعله زجاجيًا هي الحساسية.

بالمقابل؛ هناك أشخاص حجريّون، إنها ليست مسبّة، سمّيتهم هكذا فقط لأنهم يملكون الصفة الرئيسية التي تجعل تربيتهم عملية شاقة ومضنية لكنها إن نجحت فلن يعطّلها شيء بعد، فهي ليست مثل الزجاجية التي تحتاج أن تتعلم كيف تصقل نفسها لدى كل كسر جديد، هذه الصفة هي العناد، صحيح أني أعدّ العناد مرض لكن ليس كل عناد بالتأكيد، فهناك أشخاص عنيدون جبلّة وليس اكتسابًا أو تعمدًا، هؤلاء الحجريون أشخاص طيبون دافئون لكنهم لا يحتملون الأوامر ولا الأشياء الجاهزة التي يجب أن يتقبلوها، وهم أيضًا يجدون صعوبة في كسر حاجز العاطفة فهم لن يعترفوا قط بدفئهم وسيسخرون من ذلك. تعرف أحدهم صحيح؟

هناك الأشخاص الحديديون، وهؤلاء يتّسمون بالهدوء وتقريبًا اللامبالاة، إنهم لا يستطيعون فعل شيء ما لم يرغبوا بذلك، وحتى إذا تعرضوا للضغط والتركيز العالي فقد يضطروا آخر الأمر للإستجابة لكنهم سيصيبهم مثل الصدأ تجاه الأمر الذي فعلوه دون رغبة، هم نفسهم أولئك الذين يسمحون لأولادهم بما كان ممنوعًا عنهم حين كانوا أطفالًا، أو يفعلون الممنوع فور أن يُحلّ الضغط عنهم، بالتأكيد تعرف منهم.

يتبقى الأشخاص الخشبيون، هؤلاء عادة طيّعون ومتقبّلون لكن يحتاجون كثيرًا من المتابعة أول الأمر حتى يتشكّلون، مشكلتهم الوحيدة أنهم حين يتشكلون أخيرًا يكاد يكون مستحيلًا أن يتغيّروا، وهذه مشكلة تكبر وتصغر حسب شكلهم الأول الذي اكتسبوه.

لا أدري لم صنّفت هذا التصنيف، أعرف أنه ليس دقيقًا تمامًا، وأرى ذلك طبيعي خصوصًا وأنا أتحدث عن أنماط الشخصية تحت التربية والرقابة، أما بعد التربية فمعظم الشخصيات تتغيّر وتسلك مسالك تناسب إدراكها للحياة، وأنا مؤمنة بأن التغيير ينال من الجميع، لكني أعتقد بأن أقل شخص يمكنه التغيّر هو الشخص الخشبي وهو برأيي النمط الشائع بين الناس يعادله الشخص الأخضر من كتاب (محاط بالحمقى) وهذه الأفكار أعتقد أنها أثر باقٍ للكتاب في نفسي، فالنمطان الحجري والزجاجي يقاربان اللونين الأحمر والأصفر، والحديدي والخشبي يقاربان الأخضر والأزرق… لكن هناك بعض الفروق ربما لأني ركزت على فترة التربية فقط وليس السلوك العام لشخصية ناضجة مثلما فعل الكاتب.

أعتقد أني كنت طفلة زجاجية، وهذا ما هوى بهذه الأفكار كلها إلى رأسي، كنت طيعة لكني مستقلة، وكنت أريد دائمًا أن أحتوي شيئًا ما، وحين كنت أُكسر فلن ينفع معي أي شيء أنا فقط كنت أحتدّ وأجرح وأثبت بقسوة، حتى حارت أمي في تربيتي واشتكت لي قبل بضع سنين مما كنت عليه، قالت: لم أضرب أحدًا من إخوتك الضرب الذي ضربتك إياه وكنتِ تزدادين قسوة وتتظاهرين بأنه لا يؤلمك فكدت أُجن منكِ! ألم يكن يؤلمك؟ ألا تتذكرين شيئًا؟

صارحتها: بل كان يؤلمني، ولأنه كان بلا فرص لإصلاح الخطأ أو لإقناعي كنت أجد أنه عبثيًا، فأتظاهر بأنه لا يؤلم كي أرد حقي وأشعر بالظلم أيضًا.

سألت: وكيف كنت تريدين مني أن أتصرف وأنت تتمرّدين؟

وأسررت لها بسرّي: كانت ولا تزال الكلمات المؤنبة هي أشد فعالية عندي، لو عاتبتني وذكرتِ مسؤوليتي لكنت ذبتُ وطعت!

زفرت بحرارة، فأعقبت قولي: بصراحة لم أعد مستاءة كثيرًا، الذنب ذنبي أني لم أكن صريحة وطيّعة.

ابتسمت بعجب، وهي الآن تجعلني ألم كسري لدى كل خطأ، بكلمات فقط.

لم أدرك هذا من تلقاء نفسي بل بتجربة مع طفلة تشبهني، لم تنفع معها أي طريقة سوى الكلمات الموبّخة والصريحة حتى لو كانت قاسية كثيرًا. وهذا يجعلني أتذكر أن أقول بأن تصنيفي لهذه الأنماط كان ناتج عن طول معاشرتي للأطفال وسماع أمهاتهم وفهم دوافع تصرفاتهم، ورغم أني لم أصنف هذا التصنيف إلا اليوم إلا أني حين لاحظت اليوم فمعاملتي للطفل تختلف حسب دوافعه وسماته، وهي هذه الأربع غالبًا إذ لم أصادف قط طفل لا يستجيب لهذه الطرق الأربع: الترغيب والترهيب للطفل الحديدي، اظهار الإعتماد والمحاورة بالطفل الزجاجي، والمسايرة والضغط للطفل الحجري، اما بالنسبة للخشبيين فهم طيعون غالبًا ولا أتكلف في التعامل معهم لكني أكون معهم لحوحة ومحايدة كي يستطيعوا الاعتماد على نفوسهم ومعرفة قدراتهم.

هذا كل شيء، أعتقد أني كنت على وشك تأليف كتاب، من كأس مكسور حاولت صنفرته وهو الآن مقلوب على المكتب، إن تأخرت في إيجاد طريقه الخاص إلى يوم السبت فسأتخلص منه، هذه إحدى قواعدي هذا العام: المؤجل لثلاثة أيام يلغى، أحاول تبسيط مهامي قدر الامكان، والمؤجلة بالذات فهي الأكثر هيمنة على مساحة الهموم التافهة.

كونوا بخير، وقولوا لي إن استطعتم تحديد نمط أي طفل بهذا التصنيف، أو حتى طفلكم الداخلي أنتم أنفسكم.

3 أفكار على ”فلسفة الكأس الزجاجي 🍹

أضف تعليق