ذاكرة السماء

إليكَ أنتَ:

لا إلى الفكرة الجميلة.

ها أنا أخيرًا أقف على جرف القلم كي يردد صداي في الورقة، اليوم أنا هنا لأكتب لك أنت، لا للفكرة التي أريدك إليها تصير، أكتب ليس لصبابة فتاكة، و لا لإعادة موال الفقد، أنا هنا لأحادثك بلغة القلق، بلغة الرفقة التي جمعتنا على ممر الود العميق، الود الذي لا يشمله وصف، و لا يوفي تفاصيله عنوان قصة، نحنُ الذين مشينا على ممر الود، في غير اشتباك أيدي، و في غير قبلات مختلسة، نحن الذين مضينا تحت اللا شعار، و عبرنا حواجز المسافة، و رفرفنا بأجنحة النوافذ، لنصنع عالم طفولة بيننا لا تلوثه فوضى مشاعر، نحنُ الذين مُزِق حبل عالمنا الذي نسجناه على دقة و مهل، مُزِق فمزَقنا، تناثرنا، و لكننا بقينا في نفس العالم، أرواحنا هناك سجنى، أحلامنا هناك حبلى، وحدها أجسادنا غادرتها، طارت بعيدًا و ضاعت في ذاكرة السماء، لا تزال هناك، تحلق، في النسيان.

ما دعاني للقلق و الكتابة إليك هو أني أكتشف أني لستُ وحدي في النسيان، أو بالأصح لم أعد وحدي هنا.

أكتب على غضب، و أغتصب القلم ثورة، و أنفذ إلى الفجوة الهائلة بيننا، أقول: من ذا الذي جرؤ على تنصيبك “محذوف من القائمة”؟

بل السؤال الأحرى: من ذا الذي رضي بإعلان نسيانك؟ كيف له أن يفعل؟ و ما معنى ذلك؟

قبل كل شيء يا صديقي، دعنا نشعل قنديل صغير، و نفجر ذاكرة مُرة، لأنه لا سبيل إلى المعرفة ما لم نترك الوهن؛ سلامٌ على مقلتيك و قبلة للناصية.

لا زلتُ أذكر _مع أنني في النسيان و لكنه جسد فحسب_ اللحظة الأخيرة من تمزق حبل عالمنا، كانت طويلة كدهر، عشوائية كفجر، أذكر أنك صحتَ: أنا قادم.

و تأملتُ كم الفوضى، و خفتُ الركام كما اعتدت، فهتفت: لا تقترب بربك _و أتممتُ بشفتين متيبستين و صوت يائس_ معتادة على الركام، لكنك غض، ابتعد.

و أمسكتُ بطرف الحبل الذي تعبث به ريح العاصفة و شرعتُ أخفت؛ كنتُ أراك مشوش، أجدك فاقع كآخر حُلم، أسمعك كجوف بحر، أمعنتُ فوجدتُ كفك لا تمسك بطرف الحبل، و وجدتُ وجهك متلوٍ تشهق، و بصرتُ بأثرك فإذ به مثل قطرات عجولة، ابتسمتُ بحزن و استسلام و غبت.

عشتُ وقتًا طويلًا هنا، و اعتقادي بأنك قد غادرتُ مع العاصفة، و في صدري غضاضة من نسيانك التمسك بطرف الحبل، لكن الآكد من كل هذا أني ما تمنيتُ قط أن تكون هنا في النسيان معي، ما وددتُ و لو مرة أن تذوق النسيان و الفقد، أتصدق كم كان ذلك ليبدو فكرة بشعة في رأسي؟ أن تكون هنا معي؟

يا صديقي، إني حَسِرة من تعريضك للعاصفة، فكيف إذًا بإقحامك معي في نسيان متراكم!

أناشدك أن تغادر متى استطعت؛ ليس لأني أكره صحبتك بل لأني أخشى عليك الاختناق و الاحتراق، فكما تعرف الحرائق هنا لا تتوقف، حرائق الورق، حرائق الكتب، حرائق النوافذ و المقاعد و الأدراج و كل ما بالذاكرة مرتبط، و الاختناق جو المكان هنا، إن كان مكانًا أصلًا و لم يكن ثغرة فقط.

سينالك في البقاء هنا احتراق، و ستختنق إن واصلت المكوث، أنا خائفة من أجلك، عُد لتهطل من جديد على أي شيء، براعم و تربة و ورق، كن نديًا كما كنتُ، صِر قوام تلك السحائب مجددًا؛ صديقي: النسيان ثوب بالٍ عليك، الحُزن مَلمح قاسٍ على لطف ملامحك، عينيك تغوران، ناصيتك تتمدد شاحبة، أنفك تغطس في الدخان و تختفي، شفتيك عليهما أن تنفرجان كي تنفذ من الثغرة التي فيها تكمن، من قلبي رجاء أن تفتك بالنسيان و تصرخ، سيتردد صداك، و ستعرفك السماء، و ستهيج العاصفة مجددًا، فتهطل من جديد، هيا اهطل، سأُحرِق كل شيء احتفالًا بمشهدك، سأجعل من رسائلنا وقود لك، سيكون النسيان زاهيًا جدًا و لن يصوَر مضيك رتيبًا بارد، سأحترق و أتراقص، سأكون مثل نار الموقد، دافئة، مطمئنة، مبتسمة و لضحكها دمع.

إن وصلتك رسالتي، فلا يُخيَل إليك أني كتبتُ لأني أفقدك، هذه المرة أكتب لأني حريصة على إنهاء القصة، و على حَبك فكرتك بلا رواسب، أنا باقية في النسيان لأن السماء لا تعرفني بعد، و لا التراب يذكرني في إحدى حباته الجمة، النسيان وحده يفهمني، نحنُ نعيش مع بعضنا منذ أن عرفتُ نفسي، ما المشكلة في البقاء معه؟!

ثم هو ليس سيئًا جدًا، بالنسبة لمن يعرفونه مسبقًا، لمن يخبرونه جيدًا، لذا لا داعي للقلق مثلًا، فلنعتبر عصر الذاكرة نَزَق، و لتنسى حبل العالم الأخضر، احذر من أي حبال بالكلية، و لا تحدق في الطرق كي لا يصيبك من غبش الفقد و تخبط الفِكر، اهطل كثيرًا كي تنسى، أنا هنا عدسة تبتهج بالانهمار و الزخ.

آس

مسودة: هذه الثغرة غدت موحشة أكثر معك، حقيبتي مهلهلة من ثقل الرسائل، و وشاحي ممزق من حبس كلماتي في الحنجرة، أعدك أني لما أشهد مضيك و رحيلك، وقتها سأحرق الحقيبة و الوشاح و القلم، لن يعني هذا الكثير لي لكنه سيعني لك بالتأكيد.

4 أفكار على ”ذاكرة السماء

أضف تعليق