هدرة!

أعتقد أن السبب الذي يجعل طريقة كتابتي للقصص مُتعبة هو أنني أبحث عن الأحداث المُحكمة ، و لهذا دائمًا أقوم بحذف نص طويل بسبب كثير من الثغور ، هذا جيد بلا شك و لكن أعتقد أنني أبالغ كثيرًا !

كم تركتُ من مسودَّات كثيرة كثيرة جدًا ، تملأ ركن من دولابي ، كُلها قصص لم تكتمل ، أحداث متفرِّقة ، أفكار حكايا ، قصص واقعية سمعتها ، و عندما أكتب فإنني أقف ألف مرَّة : أهذا الحدث ضروري حقًا ؟

( أعتقد بأن الزمن لا تسمح بكل هذا !

ماذا يمكن أن تكون رد الفعل الأولى عند استيقاظ بطلي من النوم ؟!

كيف سيبدأ الطعام ، هل سيقفز فجأة ملتهمًا إياه ؟

أيمكن أن رأس بطلي قد يسع كل هذه الأفكار ؟

لماذا يجب أن يكون بطلي مستقيمًا في سلوكه جدًا ، لماذا أبرِّر له ؟

و الإصدار الأخير : أعتقد أنني بدأتُ أحوِّل الرواية إلى كتاب استنزافي مقيت ، أحشر فيه قصص الأولين و الآخرين ، و أدمج الحوار بالأفكار تمامًا كما فعلت ستيفاني في ” الشفق ” بعد أن تضايقتُ من أسلوبها ! )

حسنًا ، لن أُكثر الكلام يجب أن أستمر ، و لن أسمح لشيء أن يوقفني ، في كل الأحوال لا أطمح لشهرة و لا صيت ، كل ما أريده أن أكتب شيئًا يرضيني و يرضي قرَّائي _ الذين سأختارهم بعناية ربما _ على حد سواء .

بصراحة منذ الأمس حذفت قرابة ستة مقاطع لنفس المشهد ! ، في المرَّة السابعة لم أعِد قراءته كي لا أحذفه ، يجب أن يكون شيئًا ما صحيحًا ، المشكلة أن لا شيء سيء في الأحداث ، طريقة السرد لم تروقني ، أعتقد أن تنوُّعي في القراءة هذه الفترة غيَّر من طريقتي ، و مشكلتي الكبرى أنني أحبُّ الأسلوب القديم ذي الكلمات المحدودة و المعبِّرة بشكل مدهش ، و لكنني أستخدمه إلى جانب طريقتي التلقائية ، و هذا مُرهق بالفعل …

بالأمس شاهدتُ الحلقة الأخيرة من كتابة رواية في أقل من شهر للكاتب طارق الموصلي ، و بصدق انزعجتُ كثيرًا من انسحابه ، بدا الأمر كما لو أنه خان تشوُّقي للنتيجة في النهاية ، و لهذا قمتُ بالكتابة بطريقة مضاعفة على قصتي المتواضعة مردِّدة : لن أنسحب ، أبدًا أبدًا !

تشوَّقتُ لتلك الرواية التي كُتِبت بيوميات موثَّقة ، متأكِّدة بأنها مهما كانت فسيكون لها طابعها الخاص مع يومياتها ، و لا أظنُّ بأنني أستطيع فعلها ، ليس من العدل أن ينسحب من المنتصف😪

و بما أن أحداث الرواية تدور في الثمانينات في عدن ، فقد قرأتُ عن الفترة و لكنَّها لم تكفيني ، كنتُ بحاجة لنظرة شخص عاش تلك الفترة ، و سرعان ما طرأت في رأسي أمي ، فذهبتُ إليها و تحايلتُ حتى وجدتُ مسلكًا يوصلني إلى تلك الفترة .

ارتميتُ على السرير و قلتُ بزفرة : حمأ ” حر ! ” _ و أردفتُ ببراءة _ يمَّه الكهرباء زمان كانت تطفي ؟

ابتسمت _ أبدًا ، ما كانتش تطفي نهائيًا .

بتركيز _ أني قصدي فترة الثمانينات .

مؤكِّدة _ أيوة نهائيًا ما تطفيش .

بعد أن أعيتني الحيلة _ بس انتي قلتي انه كان فقر .

وضَّحت _ فقر جوع ، أما الكهرباء و الماء رخيصة و متوفِّرة .

تسألت _ يمه كيف يعني فقر جوع ؟

شرحت لي _ يعني لما تروحي المؤسسة اللي تشلِّي منه الراشن ، مثلًا أذكر يعطيك بالشهر للسكر 2 كيلو بس ، و خلاص دا حقك يعني اتصرَّفي به لنهاية الشهر ، و لما ألزموا الناس يخرجوا مظاهرة تخفيض الرواتب ، كان راتب أبي 900 شلن ، و بعد التخفيض رجع 500 شلن بس !

في النهاية أتوصَّل إلى النتيجة : كانت هناك دولة قوية ، دولة ثابتة ، و لكنَّها ماركسية .

فلتعُد الأولى إذًا ، و لننبذ الأخيرة ، تقول أمي عندما سألتها عن حجابهم في تلك الفترة :

بعدما حرَّقوا الشياذر ” جمع شيذر وهو رداء أسود اللون يعتبر كحجاب عدني أصيل ، كبار السن يسدلنه من فوق رؤوسهن ، أما الشابات فيضعنه حول أعناقهن للأسفل أي أن رؤوسهن تكون مكشوفة ” ، خرجوا الحريم بالجرلة ” تنورة ” ، و البنطلون و البلايز و غيرها .

سألتها : يعني محد يقدر يتحجب ؟

أجابت : إلا بس ناس محدَّدين اللي يتحجبوا ، الباقي يكونوا خايفين لعد حد يصيح فوقهم ، مثلًا أني كنت ألبس الشيذر بس قدني ما كنتش اخرج كثير ، بس لما يشوفوني يعني كذا يقولوا أوه مدري ماله _ و ضحكت _ المشكلة ان راسي برَّع بس اني مقتنعة اني محجبة .

أفكِّر : الأمر مخيف ، نبدو و كأننا غير مسلمين ، من المؤسف أنني قرأتُ عن حنين لعودة تلك المناظر المقزِّزة ، و الأسوأ ليس فقط مناظر بل الحانات التي كانت موجودة في تلك الفترة !

تقول أمي :

كانت المساجد مفتوحة عادي مافيش حاجة ، بس اللي مواظب يصلي يشكُّوا فيبه ، يعني هاه اش معه !

سألتُها بعد فترة :

بس يعني كيف العُملة كانت قوية ؟

أجابت بكل تأكيد : قوية ما تنزلش مهما حصل !

و في النهاية بعد أحداث طويلة و قصص شعبية ، تختم أمي الحديث : عندما قررت بريطانيا أن تخرج من عدن ، كانت هناك الجبهة القومية للتحرير ، و جبهة تحرير الجنوب المحتل ، و عندما خرجت بريطانيا ، كانت جبهة القومية هي التي استلمت رئاسة الدولة بقيادة قحطان الشعبي ، و لكنَّها لم تستمر إذ قوبلت بتمرُّد مجموعات يسارية ، و أعادت القوى اليسارية تجمُّعها كي تستلم هي زمام الأمور في البلاد ، و هكذا نشطت العلاقات مع السوفييت ، و أصبحت عدن مدينة ماركسية صغيرة مليئة بالرُّوس و الأجانب ، إلى أن قامت حرب 86 الأهلية و تدعى بالعامية ” حرب 13 يناير ” و بعدها بدأت هذه الدولة الماركسية بالإختفاء تدريجيًا ، و في 90 قامت الدولة اليمنية ، و بعد تجربة أربعة أعوام تأكَّد الجنوبيون أن دورهم عاد مهمَّش من جديد فقامت حرب 94 لإستعادة دولة الجنوب ، و لكنَّ الإنقلاب فشل ، و استمرت الوحدة …

كدتُ أتابع الحديث : استمرت الوحدة تخنقنا ببطء ، تهمِّشُنا ، و لم نكن لنقل شيئًا قبل الحوثي ، و كنا غاضبين من الثورة الخريفية تلك فقد كنا بخير و لم نكن لنحتاج نبش النتانة ، و لكن على ما يبدو أنها كانت لا بدَّ ستنبش يومًا ما ، ما كنتُ لأغضب من الوحدة هذه لأنني لم أختبر أصلًا ما قبلها ، و لكنني الآن سأصرخ بكل قواي : الجنوب يجب أن يعود .

بعد كل هذا الحديث ، أمضي إلى ملف الرواية و أتابع باطمئنان ، لا يهمُّني الماضي الماركسي الذي لن يعود إن شاء الله ، يجب أن أقول على لسان الشعب أنَّه كان معزول عن عربيَّته ، منكفئ على أجانب يسوقونهم من الخارج ، يجب أن أقول للجنوب الحر : عد فإنَّك دولة ثابتة ، عُد و لكن الآن بعروبة و فخر .

ملحوظة صغيرة : الجنوب العربي دولة قوية يجب أن تعود ، الماركسية اللينينية طارئ يجب أن لا يعود .

أيها الهائم على وجهك ، رأسك محشور في عنق الزجاجة ، نظرك ثابت على نقطة محددة سبق و أن تهدَّمت ” الوحدة بالرغم من أنني أحبُّ لو أسميها لوثة :

أحب أقولك الجنوب قادم🙂

بالنسبة للعنوان ” هدرة ” تعني بالعدنية : ثرثرة 😅

بالنسبة للصورة فهي للمعلا في الثمانينات ، هذا الشارع الرئيسي المسمَّى ” شارع مدرم ” و هذا بالضبط مدخل حارتنا ، نظافة المكان و المباني الجديدة شيء لم يعد له وجود الآن بعد الحرب …

7 أفكار على ”هدرة!

  1. أوافقك في أن الكتابة عن عصر لم تعاصريه صعبة نوعاً ما ولكنها تجربة جديرة بالخوض خاصة أنها تتحدث عن شيء تحبينه موطنك وانتماءك الأول ❤
    حاولي البحث عن مقالات أو شخصيات معرفة عاشت تلك الفترة وكيف تأثرت بها .. مقاطع فيديو قديمة أو برامج تلفزيونية وبثوث قديمة توجد على اليوتيوب تصلح أيضا ً لمصدر ..أتمنى لك فقرات سلسة و خفيفة على القلب وثرية بمحتواها بالضبط كتدويناتك التي تكتبينها هنا 💕

    Liked by 1 person

  2. الوضع في اليمن أصبح غير مفهوم، نسأل الله أن يصلح أحوال بلادنا جميعاً
    لم أفهم مظاهرات تخفيض الرواتب هذه.
    أتذكر جيداً أيام انفصال اليمن الشمالي عن الجنوبي، كنت حينها في جنوب السعودية على بعد بضعة كيلومترات من اليمن، وحضرت توحد اليمنين، وكان الخوف اﻷكبر هو تأثير الشيوعية على اليمن الشمالي الذي كان سنياً

    Liked by 1 person

  3. آه نعم ، أريد أن أحكي للجميع عن عدن ، عن قديم عدن ، عن أصلها الذي يجب أن لا نسمح للآخرين بتشويهه …
    قرأتُ كثيرًا و لكن الإستماع لقصة مُعاشة كانت الأفضل ، بالنسبة للفيديوهات و البرامج فهي فكرة ممتازة حقًا و لم أفكِّر بها و سأستخدمها ان شاء الله ؛ سلمتِ يا اسماء العزيزة على تشجيعك الدائم لي و تمنياتك الطيبة و أنا أقول لك بالمثل ودًا و حبًا 💖

    Liked by 1 person

  4. آمين فليصلح الله الحال .
    مظاهرات تخفيض الرواتب كانت في السبعينات ، و هي إلزامية على الشعب من قبل مؤسَّسات تابعة للدولة ، خرج المواطنون يصرخون ” تخفيض الرواتب واجب ” ! ، كانت الدولة وقتها ثابتة و لكنَّها كانت قاسية على الشعب ، المسؤولون في بحبوحة من العيش و الشعب يجد لقمة عيشه المحدودة تلك ، كانت القيود كثيرة و مُحكمة ، و الإجراءات تجاه أيِّة مخالفات أو حتى حديث بشأن السياسة يُعتبر جريمة و أحيانًا يختفي الشخص هذا بدون أي أثر ، دولة اشتراكية صرف .
    اليمن الشمالي لم يكن سنيًا صرفًا ، بل كان زيديًا ، و أما النظام في اليمن الجنوبي فقد كان اشتراكيًا محضًا ، مع أن الشعب ليس كله اشتراكي ، بطريقة ما كانت روسيا هي القائمة على عدن و الجنوب العربي في ذلك الوقت ، في الوحدة فرح عامة الشعب و تفاءلوا خيرًا بدولة ثابتة مسالمة و مسلمة إن حسبنا الأولى بعيدة عن الإسلام و قوانين الإسلام ، و لكن الخيبة كانت كبيرة بلا شك ..
    الشعب الشمالي مختلف تمامًا عنا ، عاداتًا و تقاليدًا و حتى فكرًا ، لم نتَّفق أبدًا ، و بكل صراحة لديهم ذلك الشيء الذي يسمى ” دحبشة ” و هو شيء يشبه الخساسة ، حيث كانت لهم اليد الطولى في البلاد و تهمَّش الجنوب نهائيًا ، في 94 تأكَّد الجنوبيون أن الأمر لم ينجح و لن يفعل ، حاولوا و فشلوا باستعادة دولتهم ، و قُتلوا بدم بارد ، و هكذا أصبحنا تحت حكم دولة أخرى من جديد …
    الآن .. بتنا نعرف جميعًا أن الوحدة شيء من الماضي ، و أنها أكبر أكذوبة بالتاريخ ، و أن علينا البدء باستعادة الدولة الآن في هذه الفرصة السانحة ، حيث أن الشعب الشمالي راضٍ تمامًا باحتلال الحوثي له ، بل و يبدو متوافق معه و يسلِّمه الأماكن المحرَّرة من قبل أبناء الجنوب و التحالف ، هنا لن نسمح لهم بالإستمرار ، الحوثي جثة نتنة لن نتحمَّلها إن استطاعوا هم تحمُّلها …
    آسفة على الرد الطويل و لكني أحببت توضيح الأمر بكل صراحة ؛ يشرِّفُني كثيرًا تواجدك في ظلال مدوَّنتي المتواضعة أستاذ 🌺

    Liked by 1 person

  5. شكراً جزيلاً على التفصيل في الرد، لم تسنح لي الفرصة خلال دراستي هناك أو حتى في السودان بالتعرف على يمنيين عدنيين، لذلك معظم هذه الحقائق غائبة عنا
    إن شاء الله نتابع أخبار بلدكم في المستقبل بنظرة أهلها لها وليس بنظرة باقي الدول المحتلة التي تمتلك اﻹعلام.
    نسأل الله أن يوفق أوضاع كل المسلمين وترجع كل الدول اﻹسلامية آمنة مستقرة

    Liked by 1 person

  6. عفوًا أستاذ
    دائمًا الحقائق لا يملكها الكثير ، هي فقط للذين ذاقوها .
    آه نعم ، أنا واثقة في أنه سيأتي اليوم الذي تكون في دولة الجنوب قائمة ثابتة لا يهزُّ أمانها شيء .
    آمين آمين يا رب
    و كن بخير 🌺

    إعجاب

أضف تعليق